الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْذَنُوكَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ لِجِهَادِ عَدُوِّكَ، الْخُرُوجَ مَعَكَ {لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}، يَقُولُ: لَأَعَدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّةً، وَلَتَأَهَّبُوا لِلسَّفَرِ وَالْعَدُوِّ أُهْبَتَهُمَا {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}، يَعْنِي: خُرُوجَهُمْ لِذَلِكَ (فَثَبَّطَهُمْ)، يَقُولُ: فَثَقَّلَ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجَ حَتَّى اسْتَخَفُّوا الْقُعُودَ فِي مَنَازِلِهِمْ خِلَافَكَ، وَاسْتَثْقَلُوا السَّفَرَ وَالْخُرُوجَ مَعَكَ، فَتَرَكُوا لِذَلِكَ الْخُرُوجَ {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، يَعْنِي: اقْعُدُوا مَعَ الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَمَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَاتْرُكُوا الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ تَثْبِيطُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِعِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ وَغِشِّهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَهُمْ ضَرُّوهُمْ وَلَمْ يَنْفَعُوا. وَذَكَرَ أَنِ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ كَانُوا: " عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِيٍّ ابْنَ سَلُولَ "، وَ" الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ "، وَمَنْ كَانَا عَلَى مَثَلِ الَّذِي كَانَا عَلَيْهِ. كَذَلِكَ:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ فِيمَا بَلَغَنِي، مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ، فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ، لِعِلْمِهِ بِهِمْ، أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ، فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ خَرَجَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِيكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، يَقُولُ: لَمْ يَزِيدُوكُمْ بِخُرُوجِهِمْ فِيكُمْ إِلَّا فَسَادًا وَضُرًّا، وَلِذَلِكَ ثَبَّطْتُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الْخَبَالِ"، بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، يَقُولُ: وَلَأَسْرَعُوا بِرَكَائِبِهِمُ السَّيْرَ بَيْنَكُمْ. وَأَصْلُهُ مِنَ "إِيضَاعِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ"، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ بِهَا فِي السَّيْرِ، يُقَالُ لِلنَّاقَةِ إِذَا أَسْرَعَتِ السَّيْرَ: "وَضَعَتِ النَّاقَةُ تَضَعُ وَضْعًا وَمَوْضُوعًا"، وَ"أَوَضَعَهَا صَاحِبُهَا"، إِذَا جَدَّ بِهَا وَأَسْرَعَ، "يُوضِعُهَا إِيضَاعًا"، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِز: يَـا لَيْتَنِـي فِيهَـا جَـذَعْ *** أَخُـبُّ فِيهَـا وَأَضَـعْ وَأَمَّا أَصْلُ "الْخِلَالِ"، فَهُوَ مِنْ "الْخَلَلِ"، وَهِيَ الْفُرَجُ تَكُونُ بَيْنَ الْقَوْمِ، فِي الصُّفُوفِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لَا يَتَخَلَّلْكُمْ [الشَّيَاطِينُ، كَأَنَّهَا] أَوْلَادُ الحذَف». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، فَإِنَّ مَعْنَى: "يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ"، يَطْلُبُونَ لَكُمْ مَا تَفْتِنُونَ بِهِ، عَنْ مَخْرَجِكُمْ فِي مَغْزَاكُمْ، بِتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاكُمْ عَنْهُ. يُقَالُ مِنْهُ: "بَغَيْتُهُ الشَّرَّ"، وَ" بَغَيْتُهُ الْخَيْرَ" "أَبْغِيهِ بُغَاءً"، إِذَا الْتَمَسْتُهُ لَهُ، بِمَعْنَى: "بَغَيْتُ لَهُ"، وَكَذَلِكَ "عَكَمْتُكَ" وَ"حَلَبْتُكَ"، بِمَعْنَى: "حَلَبُتُ لَكَ"، وَ"عَكَمْتُ لَكَ"، وَإِذَا أَرَادُوا: أَعَنْتُكَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: "أَبْغَيْتُكَ كَذَا"، وَ"أَحْلَبْتُكَ"، وَ"أَعْكَمْتُكَ"، أَيْ: أَعَنْتُكَ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، بَيْنَكُمْ {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، بِذَلِكَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، يَقُولُ: [وَلَأَوْضَعُوا بَيْنَكُمْ]، خِلَالَكُمْ، بِالْفِتْنَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، يُبَطِّئُونَكُمْ قَالَ: رِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، قَالَ: لَأَسْرَعُوا الْأَزِقَّةَ {خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، يُبَطِّئُونَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَُبَِي ابْنُ سَلُولَ. قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، قَالَ: لَأَسْرَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ بِذَلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. يُسَلِّي اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَمَا يُحْزِنُكُمْ؟ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، ! يَقُولُونَ: "قَدْ جُمِعَ لَكُمْ، وَفُعِلَ وَفُعِلَ، يُخَذِّلُونَكُمْ" {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، الْكُفْرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لِحَدِيثِكُمْ لَهُمْ، يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِمْ، عُيُونٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَكُمْ، عُيُونٌ غَيْرُ مُنَافِقِينَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، قَالَ: مُحَدِّثُونَ، عُيُونٌ، غَيْرُ الْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، يَسْمَعُونَ مَا يُؤَدُّونَهُ لِعَدُوِّكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيُطِيعُ لَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا، فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ، فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ، لِعِلْمِهِ بِهِمْ: أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ، فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ. وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبَّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ، فَقَالَ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: وَفِيكُمْ أَهْلُ سَمْعٍ وَطَاعَةٍ مِنْكُمْ، لَوْ صَحِبُوكُمْ أَفْسَدُوهُمْ عَلَيْكُمْ، بِتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ السَّيْرِ مَعَكُمْ. وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَفِيكُمْ مِنْهُمْ سَمَّاعُونَ يَسْمَعُونَ حَدِيثَكُمْ لَهُمْ، فَيُبَلِّغُونَهُمْ وَيُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِمْ، عُيُونٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: "وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لِحَدِيثِكُمْ لَهُمْ، يُبَلِّغُونَهُ عَنْكُمْ، عُيُونٌ لَهُمْ"، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: "سَمَّاعٌ"، وَصْفُ مَنْ وُصِفَ بِهِ أَنَّهُ سَمَّاعٌ لِلْكَلَامِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 41]، وَاصِفًا بِذَلِكَ قَوْمًا بِسَمَاعِ الْكَذِبِ مِنَ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا إِذَا وَصَفُوا الرَّجُلَ بِسَمَاعِ كَلَامِ الرَّجُلِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَبُولِهِ مِنْهُ وَانْتِهَائِهِ إِلَيْهِ فَإِنَّمَا تَصِفُهُ بِأَنَّهُ: "لَهُ سَامِعٌ وَمُطِيعٌ"، وَلَا تَكَادُ تَقُولُ: "هُوَ لَهُ سَمَّاعٌ مُطِيعٌ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ يُوَجِّهُ أَفْعَالَهُ إِلَى غَيْرِ وُجُوهِهَا، وَيَضَعُهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَمَنْ يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُذْرٍ، وَمَنْ يَسْتَأْذِنُهُ شَكًّا فِي الْإِسْلَامِ وَنِفَاقًا، وَمَنْ يَسْمَعُ حَدِيثَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُخْبِرَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ يَسْمَعُهُ لِيُسَرَّ بِمَا سُرَّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُسَاءُ بِمَا سَاءَهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ سَرَائِرَ خَلْقِهِ وَعَلَانِيَتِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الظُّلْمِ" فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدِ الْتَمَسَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْفِتْنَةَ لِأَصْحَابِكَ، يَا مُحَمَّدُ، الْتَمَسُوا صَدَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَصُوا عَلَى رَدِّهِمْ إِلَى الْكُفْرِ بِالتَّخْذِيلِ عَنْهُ، كَفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَُبَيٍّ بِكَ وَبِأَصْحَابِكَ يَوْمَ أُحُدٍ، حِينَ انْصَرَفَ عَنْكَ بِمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَوْمِهُ. وَذَلِكَ كَانَ ابْتِغَاءَهُمْ مَا كَانُوا ابْتَغَوْا لِأَصْحَابِ رَسُولَِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفِتْنَةِ مِنْ قَبْلُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مِنْ قَبْلُ)، مِنْ قَبْلِ هَذَا {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}، يَقُولُ: وَأَجَالُوا فِيكَ وَفِي إِبْطَالِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ اللَّهُ الرَّأْيَ بِالتَّخْذِيلِ عَنْكَ، وَإِنْكَارِ مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ، وَرَدِّهُ عَلَيْكَ {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ}، يَقُولُ: حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ}، يَقُولُ: وَظَهَرَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَافْتَرَضَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ (وَهُمْ كَارِهُونَ)، يَقُولُ: وَالْمُنَافِقُونَ بِظُهُورِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ إِيَّاكَ كَارِهُونَ. وَكَذَلِكَ الْآنَ، يَُظْهِرُكَ اللَّهُ وَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، وَهُمْ كَارِهُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}، أَيْ: لِيُخَذِّلُوا عَنْكَ أَصْحَابَكَ، وَيَرُدُّوا عَلَيْكَ أَمْركَ {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ}. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي نَفَرٍ مُسَمَّيْنَ بِأَعْيَانِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}، قَالَ: مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ، وَزَيْدُ بْنُ التَّابُوتِ الْقَيْنُقَاعِيُّ. وَكَانَ تَخْذِيلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيٍّ أَصْحَابَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ، كَالَّذِي: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ، كُلٌ قَدْ حَدَّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، وَكُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَحِينَ طَابَ الثِّمَارُ، وَأُحِبَّتِ الظِّلَالُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَنْهَا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الَّذِي يَصْمِدُ لَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ، لِبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي صَمَدَ لَهُ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَادِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُرْهِ لِذَلِكَ الْوَجْهِ، لِمَا فِيهِ، مَعَ مَا عَظَّمُوا مِنْ ذِكْرِ الرُّومِ وَغَزْوِهِمْ. ثُمَّ إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي سَفَرِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ عَسْكَرَهُ عَلَى حِدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ بِحِذَاءِ "ذُبَاب" جَبَلٍ بِالْجَبَانَةِ أَسْفَلَ مِنْ ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ، لَيْسَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَُبَيٍّ، أَخَا بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، أَخَا بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانُوا مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكِيدُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. قَالَ: وَفِيهِمْ، فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ. وَيَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ)، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ {مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي}، أُقِمْ فَلَا أَشْخَصُ مَعَكَ {وَلَا تَفْتِنِّي}، يَقُولُ: وَلَا تَبْتَلِنِي بِرُؤْيَةِ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَبَنَاتِهِمْ، فَإِنِّي بِالنِّسَاءِ مُغْرَمٌ، فَأَخْرُجُ وَآثَمُ بِذَلِكَ. وَبِذَلِكَ مَنَّ التَّأْوِيلِ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَمَّنْ قَالَهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغْزُوا تَبُوكَ، تَغْنَمُوا بَنَاتِ الْأَصْفَرِ وَنِسَاءَ الرُّومِ! فَقَالَ الْجَدُّ: ائْذَنْ لَنَا، وَلَا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْزُوَا تَغْنَمُوا بَنَاتِ الْأَصْفَرِ يَعْنِي نِسَاءَ الرُّومِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَهُ. قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}، قَالَ: هُوَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: قَدْ عَلِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنِّي إِذَا رَأَيْتُ النِّسَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أَفْتَتِنَ، وَلَكِنْ أَُعِينُكَ بِمَالِي. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ، لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلَمَةَ: هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ تَأْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ! فَأعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} الْآيَةَ، » أَيْ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَعْظَمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي «قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}، قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَامَ نَغْزُو بَنِي الْأَصْفَرِ وَنَتَّخِذُ مِنْهُمْ سَرَارِيَ وَوُصَفَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، إِنْ لَمْ تَأْذَنْ لِي افْتَتَنْتُ وَقَعَدْتُ! وَغَضِبَ [رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، فَقَالَ اللَّهُ: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، وَكَانَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟ فَقَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، غَيْرَ أَنَّهُ بَخِيلٌ جَبَانٌ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ، وَلَكِنَّ سَيِّدَكُمُ الْفَتَى الْأَبْيَضُ، الْجَعْدُ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}، يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلَا تُحْرِجْنِي {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}، يَعْنِي: فِي الْحَرَجِ سَقَطُوا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}، وَلَا تُؤْثِمْنِي، أَلَّا فِي الْإِثْمِ سَقَطُوا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، يَقُولُ: وَإِنَّ النَّارَ لَمُطِيفَةٌ بِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَحَدَ آيَاتِهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، مُحْدِقَةٌ بِهِمْ، جَامِعَةٌ لَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَقُولُ: فَكَفَى لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَأَشْكَالِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِصِلِيِّهَا خِزْيًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ يُصِبْكَ سُرُورٌ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكَ أَرْضَ الرُّومِ فِي غَزَاتِكَ هَذِهِ، يَسُؤِ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ وَنُظَرَاءَهُ وَأَشْيَاعَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ بِفُلُولِ جَيْشِكَ فِيهَا، يَقُولُ الْجَدُّ وَنُظَرَاؤُهُ: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}، أَيْ: قَدْ أَخَذَنَا حِذْرَنَا بِتَخَلُّفِنَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَتَرْكِ أَتْبَاعِهِ إِلَى عَدُوِّهِ (مِنْ قَبْلُ)، يَقُولُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}، يَقُولُ: وَيَرْتَدُّوا عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا أَصَابَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ، بِفُلُولِ أَصْحَابِهِ وَانْهِزَامِهِمْ عَنْهُ، وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، يَقُولُ: إِنَّ تُصِبْكَ فِي سَفَرِكَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ تَبُوكَ {حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، قَالَ: الْجَدُّ وَأَصْحَابُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}، حِذْرَنَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}، قَالَ: حِذْرَنَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، إِنْ كَانَ فَتْحٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَسَاءَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُؤَدِّبًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ)، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْكَ: {لَنْ يُصِيبَنَا}، أَيُّهَا الْمُرْتَابُونَ فِي دِينِهِمْ {إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}، فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَضَاهُ عَلَيْنَا {هُوَ مَوْلَانَا}، يَقُولُ: هُوَ نَاصِرُنَا عَلَى أَعْدَائِهِ {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، يَقُولُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْجُوَا النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَخَافُوا شَيْئًا غَيْرَهُ، يَكْفِهِمْ أُمُورَهُمْ، وَيَنْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ بَغَاهُمْ وَكَادَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ)، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ وَبَيَّنْتُ لَكَ أَمْرَهُمْ: هَلْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هَمَّا أَحْسَنُ مَنْ غَيْرِهِمَا، إِمَّا ظَفَرًا بِالْعَدُوِّ وَفَتْحًا لَنَا بِغَلَبَتِنَاهُمْ، فَفِيهَا الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ وَالسَّلَامَةُ وَإِمَّا قَتْلًا مِنْ عَدُوِّنَا لَنَا، فَفِيهِ الشَّهَادَةُ، وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ. وَكِلْتَاهُمَا مِمَّا نُحِبُّ وَلَا نَكْرَهُ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ}، يَقُولُ: وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعُقُوبَةٍ مِنْ عِنْدِهِ عَاجِلَةً، تُهْلِكُكُمْ {أَوْ بِأَيْدِينَا}، فَنَقْتُلُكُمْ {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}، يَقُولُ: فَانْتَظَرُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُنْتَظِرُونَ مَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِنَا، وَمَا إِلَيْهِ صَائِرٌ أَمْرُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، يَقُولُ: فَتْحٌ أَوْ شَهَادَةٌ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يَقُولُ: الْقَتْلَ، فَهِيَ الشَّهَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالرِّزْقُ، وَإِمَّا يُخْزِيكُمْ بِأَيْدِينَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، يَقُولُ: قَتْلٌ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالرِّزْقُ، وَإِمَّا أَنْ يَغْلِبَ فَيُؤْتِيهِ اللَّهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، إِلَى {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 74]. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، قَالَ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالظُّهُورُ عَلَى أَعْدَائِهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَّغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالظُّهُورُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالظُّهُورَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ}، بِالْمَوْتِ {أَوْ بِأَيْدِينَا}، قَالَ: الْقَتْلُ.
حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، إِلَّا فَتْحًا أَوْ قَتْلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، أَيْ: قَتْلٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ)، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ: أَنْفَقُوا كَيْفَ شِئْتُمْ أَمْوَالَكُمْ فِي سَفَرِكُمْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ شِئْتُمْ، مِنْ حَالِ الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُنْفِقُوهَا لَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكُمْ نَفَقَاتِكُمْ، وَأَنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِكُمْ، وَجَهْلٍ مِنْكُمْ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّكُمْ، وَسُوءِ مَعْرِفَةٍ مِنْكُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ)، يَقُولُ: خَارِجِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَبِّكُمْ. وَخَرَجَ قَوْلُهُ: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، مَخْرَجَ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْجَزَاءُ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَحْسُنُ فِيهَا "إِنِ"، الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 80]، فَهُوَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْجَزَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَسِـيئي بِنَـا أَوْ أَحْسِـنِي لَا مَلُومَـةً *** لَدَيْنَـا، وَلَا مَقْلِيَّـةً إِنْ تَقَلَّـتِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنْ تُنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فلَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ مَعَهُ لِغَزْوِ الرُّومِ: "هَذَا مَالِي أُعِينُكَ بِهِ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ، الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ: إِنِّي إِذَا رَأَيْتُ النِّسَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أَفْتَتِنَ، وَلَكِنْ أَعْيُنَكَ بِمَالِي! قَالَ: فَفِيهِ نَـزَلَتْ {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}، قَالَ: لِقَوْلِهِ "أُعِينُكَ بِمَالِي".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا مَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، يَا مُحَمَّدُ، أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي سَفَرِهِمْ مَعَكَ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّبُلِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، فَـ "أَنِ" الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: مَا مَنَعَ قَبُولَ نَفَقَاتِهِمْ إِلَّا كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}، يَقُولُ: لَا يَأْتُونَهَا إِلَّا مُتَثَاقِلِينَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ بِأَدَائِهَا ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ بِتَرْكِهَا عِقَابًا، وَإِنَّمَا يُقِيمُونَهَا مَخَافَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا أَمِنُوهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا (وَلَا يُنْفِقُونَ)، يَقُولُ: وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا {إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}، أَنْ يُنْفِقُونَهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ فِيهِ، مِمَّا فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَلَا تُعْجِبْكَ، يَا مُحَمَّدُ، أَمْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ التَّقْدِيمُ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ}، قَالَ: هَذِهِ مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بِمَا أَلْزَمُهُمْ فِيهَا مِنْ فَرَائِضِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ سَلْمَانَ الْأَنْصَرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قَالَ: بِأَخْذِ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، بِالْمَصَائِبِ فِيهَا، هِيَ لَهُمْ عَذَابٌ، وَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَجْرٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الْحَسَنِ. لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ التَّنْـزِيلِ، فَصَرْفُ تَأْوِيلِهِ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ، أَولَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى بَاطِنٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ. وَإِنَّمَا وَجَّهَ مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى التَّقْدِيمِ وَهُوَ مُؤَخِّرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ لِتَعْذِيبِ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَجْهًا يُوَجِّهُهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: كَيْفَ يُعَذِّبُهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ لَهُمْ فِيهَا سُرُور؟ وَذَهَبَ عَنْهُ تَوْجِيهَهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ عَظِيمِ الْعَذَابِ عَلَيْهِ إِلْزَامُهُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ حُقُوقِهِ وَفَرَائِضِهِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ طَيِّبِ النَّفْسِ، وَلَا رَاجٍ مِنَ اللَّهِ جَزَاءً، وَلَا مِنَ الْآخِذِ مِنْهُ حَمْدًا وَلَا شُكْرًا، عَلَى ضَجَرٍ مِنْهُ وَكُرْهٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي وَتَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ، فَيَمُوتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يُقَالُ مِنْهُ: "زَهَقَتْ نَفْسُ فُلَانٍ، وزَهِقَتْ"، فَمَنْ قَالَ: "زَهَقَتْ" قَالَ: "تَزْهَقُ"، وَمَنْ قَالَ: "زَهِقَتْ"، قَالَ: "تَزْهَقُ"، "زَهُوقًا"، وَمِنْهُ قِيلَ: "زَهَقَ فُلَانٌ بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ يَزْهَقُ زُهُوقًا" إِذَا سَبَقَهُمْ فَتَقَدَّمَهُمْ. وَيُقَالُ: "زَهَقَ الْبَاطِلُ"، إِذَا ذَهَبَ وَدَرَسَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ كَذِبًا وَبَاطِلًا خَوْفًا مِنْكُمْ: {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، مُكَذِّبًا لَهُمْ: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ}، أَيْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، بَلْ هُمْ أَهْلُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}، يَقُولُ: وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَخَافُونَكُمْ، فَهُمْ خَوْفًا مِنْكُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: "إِنَّا مِنْكُمْ"، لِيَأْمَنُوا فِيكُمْ فَلَا يُقْتَلوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ يَجِدُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ "مَلْجَأً"، يَقُولُ: عَصَرًا يَعْتَصِرُونَ بِهِ مِنْ حِصْنٍ، وَمَعْقِلًا يَعْتَقِلُونَ فِيهِ مِنْكُمْ {أَوْ مَغَارَاتٍ}، وَهِيَ الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ، وَاحِدَتهَا: "مَغَارَةٌ"، وَهِيَ "مَفْعَلَةٌ"، مِنْ: "غَارَ الرَّجُلُ فِي الشَّيْءِ، يَغُورُ فِيهِ"، إِذَا دَخَلَ، وَمِنْهُ قِيلَ، "غَارَتِ الْعَيْنُ"، إِذَا دَخَلَتْ فِي الْحَدَقَةِ. {أَوْ مُدَّخَلًا}، يَقُولُ: سَرَبًا فِي الْأَرْضِ يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَقَالَ: "أَوْ مُدَّخَلًا"، الْآيَةَ، لِأَنَّهُ "مِنِ ادَّخَلَ يَدَّخِلُ". وَقَوْلُهُ: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}، يَقُولُ: لَأَدْبَرُوا إِلَيْهِ، هَرَبًا مِنْكُمْ {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}. يَقُولُ: وَهُمْ يُسْرِعُونَ فِي مَشْيِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ "الْجِمَاح" مَشْيٌ بَيْنَ الْمَشْيَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ: لَقَـدْ جَمَحْـتُ جِمَاحًـا فِـي دِمَـائِهِمُ *** حَـتَّى رَأَيْـتُ ذَوِي أَحْسَـابِهِمْ خَـمَدُوا وَإِنَّمَا وَصْفُهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَقَامُوا بَيْنَ أَظْهُرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ وَلِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْمِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَفِي دَوْرِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ وَفِرَاقِهِ، فَصَانَعُوا الْقَوْمَ بِالنِّفَاقِ، وَدَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ وَدَعْوَى الْإِيمَانِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الْبُغْضِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ وَاصِفَهُمْ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ)، الْآيَةَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً}، "الْمَلْجَأُ": الْحِرْزُ فِي الْجِبَالِ، "وَالْمَغَارَاتُ"، الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ مُدَّخَلًا}، وَ "المُدَّخَلُ"، السَّرَبُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}، "مَلْجَأً"، يَقُولُ: حِرْزًا {أَوْ مَغَارَاتٍ}، يَعْنِي الْغَيْرَانَ {أَوْ مُدَّخَلًا}، يَقُولُ: ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ النَّفَقُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّرَبُ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا}، قَالَ: حِرْزًا لَهُمْ يَفِرُّونَ إِلَيْهِ مِنْكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا}، قَالَ: مَحْرِزًا لَهُمْ، لَفَرُّوا إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً}، حِرْزًا {أَوْ مَغَارَاتٍ}، قَالَ: الْغَيْرَانَ {أَوْ مُدَّخَلًا}، قَالَ: نَفَقًا فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا}، يَقُولُ: "لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً"، حُصُونًا {أَوْ مَغَارَاتٍ}، غِيرَانًا {أَوْ مُدَّخَلًا}، أَسْرَابًا {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ {مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يَقُولُ: يَعِيبُكُ فِي أَمْرِهَا، ويطعُنُ عَلَيْكَ فِيهَا. يُقَالُ مِنْهُ: "لَمَزَ فُلَانٌ فُلَانًا يَلْمِزُهُ، وَيَلْمُزُهُ" إِذَا عَابَهُ وَقَرَصَهُ، وَكَذَلِكَ "هَمَزَهُ"، وَمِنْهُ قِيلَ: "فُلَانٌ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: قَـارَبْتُ بَيْـنَ عَنَقِـي وَجَـمْزِي *** فِـي ظِـلِّ عَصْـرَيْ بَـاطِلي وَلَمْزِي وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: إِذَا لَقِيْتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً وَإِنْ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْعَائِبُ اللُّمَزَهْ {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا}، يَقُولُ: لَيْسَ بِهِمْ فِي عَيْبِهِمْ إِيَّاكَ فِيهَا، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْكَ بِسَبَبِهَا الدِّينُ، وَلَكِنَّ الْغَضَبَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ أَنْتَ أَعْطَيْتَهُمْ مِنْهَا مَا يُرْضِيهِمْ رَضُوا عَنْكَ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تُعْطِهِمْ مِنْهُمْ سَخَطُوا عَلَيْكَ وَعَابُوكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، قَالَ: يَرُوزُكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يَرُوزُكَ وَيَسْأَلُكَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةٍ فَقَسَّمَهَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا حَتَّى ذَهَبَتْ. قَالَ: وَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ». حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يَقُولُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي الصَّدَقَاتِ. وَذُكِرَ لَنَا «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِأَعْرَابِيَّةٍ، أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَسِّمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ، مَا عَدَلْتَ! فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكَ! فَمَنْ ذَا يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي! ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهَ هَذَا، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ». وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُعْطِيكُمْ شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُكُمُوهُ، إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، قَالَ: يَطْعَنُ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ قَسْمًا، إِذْ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ! قَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْتَقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ فِي قُذَذِهُ فَلَا يَنْظُرُ شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ، فَلَا يَجِدُ شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي رِصَافِهِ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ، أَسْوَدُ، إِحْدَى يَدِهِ أَوْ قَالَ: يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ قَتَلَهُمْ جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يُعْطِيهَا مُحَمَّدٌ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ، وَلَا يُؤْثِرُ بِهَا إِلَّا هَوَاهُ! فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَتْ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ هَذَا أَمُرُّ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ مُحَمَّدٍ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَلْمِزُونَكَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي الصَّدَقَاتِ، رَضُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عَطَاءٍ، وَقَسَمَ لَهُمْ مِنْ قَسْمٍ {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}، يَقُولُ: وَقَالُوا: كَافِينَا اللَّهُ، {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، يَقُولُ: سَيُعْطِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِ خَزَائِنِهِ، وَرَسُولُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، يَقُولُ: وَقَالُوا: إِنَّا إِلَى اللَّهِ نَرْغَبُ فِي أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِيَنَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِلَاتِ النَّاسِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَاوَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا الصَّدَقَاتُ إِلَّا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَمَنْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ "الْفَقِير" وَ" الْمِسْكِينِ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: " الْفَقِيرُ "، الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَ" الْمِسْكِينُ "، الْمُحْتَاجُ السَّائِلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، قَالَ: "الْفَقِيرُ "، الْجَالِسُ فِي بَيْتِه" وَالْمِسْكِينُ "، الَّذِي يَسْعَى. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، قَالَ: " الْمَسَاكِينُ "، الطَّوَّافُونَ، وَ" الْفُقَرَاءُ "، فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ "الْفُقَرَاءِ "، قَالَ: " الْفُقَرَاءُ "الْمُتَعَفِّفُونَ، وَ" الْمَسَاكِين" الَّذِينَ يَسْأَلُونَ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجَزْرِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، قَالَ: الَّذِينَ فِي بُيُوتِهِمْ لَا يَسْأَلُونَ، وَ" الْمَسَاكِينُ "، الَّذِينَ يَخْرُجُونَ فَيَسْأَلُونَ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْفَقِير" الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَ" الْمِسْكِينُ "، الَّذِي يَسْأَلُ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، قَالَ: "الْفُقَرَاء" الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ، أَهْلُ حَاجَةٍ وَ" الْمَسَاكِينُ " الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْفُقَرَاء" الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ، وَ" الْمَسَاكِينُ " الَّذِينَ يَسْأَلُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْفَقِير" هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَ" الْمِسْكِينُ " هُوَ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ مِنْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، قَالَ: "الْفَقِير" مَنْ بِهِ زَمَانَةٌ وَ" الْمِسْكِينُ " الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، أَمَّا "الْفَقِير" فَالزَّمِنُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ، وَأَمَّا "الْمِسْكِين" فَهُوَ الَّذِي لَيْسَتْ بِهِ زَمَانَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْفُقَرَاء" فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، وَ" الْمَسَاكِينُ " مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، قَالَ: فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَ" الْمَسَاكِينُ " الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي: وَلَا يُعْطَى الْأَعْرَابُ مِنْهَا شَيْئًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ لِفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَتْ تَجْعَلُ الصَّدَقَةَ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَا: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لِأَحَدِهِمُ الدَّارُ، وَالزَّوْجَةُ، وَالْعَبْدُ، وَالنَّاقَةُ يَحُجُّ عَلَيْهَا وَيَغْزُو، فَنَسَبَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ، وَجَعَلَ لَهُمْ سَهْمًا فِي الزَّكَاةِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْمِسْكِين" الضَّعِيفُ الْكَسْبِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَلِيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَيْسَ الْفَقِيرُ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْفَقِيرَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ قَالَ يَعْقُوبُ: قَالَ ابْنُ عَلِيَّةَ: "الْأَخْلَق" الْمُحَارَفُ عِنْدَنَا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الْفَقِير" مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَ" الْمِسْكِينُ " مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، قَالَ: لَا تَقُولُوا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ "مَسَاكِين" إِنَّمَا "الْمَسَاكِين" مَسَاكِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "الْفَقِير هُوَ ذُو الْفَقْرِ أَوِ الْحَاجَةِ، وَمَعَ حَاجَتِهِ يَتَعَفَّفُ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُمْ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَ" الْمِسْكِينُ " هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَذَلِّلُ لِلنَّاسِ بِمَسْأَلَتِهِمْ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ لَمْ يُعْطَيَا إِلَّا بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، دُونَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْأَلَةِ، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ "الْمِسْكِين" إِنَّمَا يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ بِالْفَقْرِ، وَأَنَّ مَعْنَى "الْمَسْكَنَة" عِنْدَ الْعَرَبِ، الذِّلَّةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 61]، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْهَوْنَ وَالذِّلَّةَ، لَا الْفَقْرَ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ صَنَّفَ مَنْ قَسَمَ لَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ قِسْمًا بِالْفَقْرِ، فَجَعَلَهُمْ صِنْفَيْنِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الْآخَرِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ لَا شَكَ أَنَّ الْمَقْسُومَ لَهُ بِاسْمِ "الْفَقِير" غَيْرُ الْمَقْسُومِ لَهُ بِاسْمِ الْفَقْرِ وَ" الْمَسْكَنَةِ " وَالْفَقِيرُ الْمُعْطَى ذَلِكَ بِاسْمِ الْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ، هُوَ الَّذِي لَا مَسْكَنَةَ فِيهِ. وَالْمُعْطَى بِاسْمِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ، هُوَ الْجَامِعُ إِلَى فَقْرِهِ الْمَسْكَنَةَ، وَهِيَ الذُّلُّ بِالطَّلَبِ وَالْمَسْأَلَةِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ: الْمُتَعَفِّفُ مِنْهُمُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمُتَذَلِّلُ مِنْهُمُ الَّذِي يَسْأَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ خَبَرٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ! اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 273]». وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّف» عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ أَهْلَ الْفَقْرِ "مَسَاكِين" لَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمِسْكِينِ مِنَ الْفَقِيرِ. وَمِمَّا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، انْتِزَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ اللَّهِ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، وَذَلِكَ فِي صِفَةِ مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ ذِكْرَهُ وَوَصَفَهُ بِالْفَقْرِ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 273]. وَقَوْلُهُ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، وَهُمُ السُّعَاةُ فِي قَبْضِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَوَضْعِهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا، يُعْطَوْنَ ذَلِكَ بِالسِّعَايَةِ، أَغْنِيَاءَ كَانُوا أَوْ فُقَرَاءَ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَتْ الزُّهْرِيَّ: عَنِ "الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا" فَقَالَ: السُّعَاةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، قَالَ: جُبَاتُهَا الَّذِينَ يَجْمَعُونَهَا وَيَسْعَوْنَ فِيهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى مِنْهُ الثُّمُنَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الثَُّمُنُ مِنَ الصَّدَقَةِ. حُدِّثْتُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، قَالَ: يَأْكُلُ الْعُمَّالُ مِنَ السَّهْمِ الثَّامِنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُعْطَى عَلَى قَدْرِ عِمَالَتِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ عَنِ الْأَخْضَرِ بْنِ عِجْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ: أَيُّ مَالٍ هِيَ؟ فَقَالَ: مَالُ الْعُرْجَانِ وَالْعُورَانِ وَالْعُمْيَانِ، وَكُلُّ مُنْقَطَعٍ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِلْعَامِلِينَ حَقًّا وَالْمُجَاهِدِينَ! قَالَ: إِنَّ الْمُجَاهِدِينَ قَوْمٌ أُحِلُّ لَهُمْ، وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ عِمَالَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَكُونُ لِلْعَامِلِ عَلَيْهَا إِنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا أُولَئِكَ يُعْطُونَ الْعَامِلَ الثُّمُنَ، إِنَّمَا يَفْرِضُونَ لَهُ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، قَالَ: كَانَ يُعْطَى الْعَامِلُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُعْطَى الْعَامِلُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ عِمَالَتِهِ وَأَجْرَ مِثْلِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُقَسِّمْ صَدَقَةَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّمَا عَرَّفَ خَلْقَهُ أَنَّ الصَّدَقَاتِ لَنْ تُجَاوِزَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، بِمَا سَنُوَضِّحُ بَعْدُ، وَبِمَا قَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ مِنْهَا حَقًّا، فَإِنَّمَا يُعْطَى عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْمُعْطِي فِيهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَيْهَا إِنَّمَا يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ، لَا عَلَى الْحَاجَةِ الَّتِي تَزُولُ بِالْعَطِيَّةِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ مِنْ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ قَدْرٌ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَا يَزُولُ بِالْعَطِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْعَزْلِ. وَأَمَّا " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} " فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ لَمْ تَصِحَّ نُصْرَتُهُ، اسْتِصْلَاحًا بِهِ نَفْسَهُ وَعَشِيرَتَهُ كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِذَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَأَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا قَالُوا: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ! وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ، عَابُوهُ وَتَرَكُوهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ: سُفْيَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمِنْ بَنِي فَزَارَةَ: عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ: مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَمِنْ بَنِي سَلِيمٍ: الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسَ وَمِنْ ثَقِيفٍ: الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةَ نَاقَةٍ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى فَإِنَّهُ أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَي». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَاسٌ كَانَ يَتَأَلَّفَهُمْ بِالْعَطِيَّةِ عَيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}: الَّذِينَ يُؤَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: وَأَمَّا " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} " فَأُنَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفَهُمْ بِالْعَطِيَّةِ كَيْمَا يُؤْمِنُوا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، فَقَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ. قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجَزَرِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، قَالَ: مَنْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيوُجُودِ الْمُؤَلِّفَةِ الْيَوْمَ وَعَدَمِهَا، وَهَلْ يُعْطَى الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى التَّأَلُّفِ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ بَطَلَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمُ الْيَوْمَ، وَلَا سَهْمَ لِأَحَدٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ إِلَّا لِذِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، قَالَ: أَمَّا "الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم" فَلَيْسَ الْيَوْمَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: لَمْ يَبْقَ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، إِنَّمَا كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَأَتَاهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، [سُورَةُ الْكَهْفِ: 29]، أَيْ: لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، انْقَطَعَتِ الرُّشَا. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم" فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَحَقُّهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: فِي النَّاسِ الْيَوْمَ، الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَدُّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْآخَرُ: مَعُونَةُ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتُهُ. فَمَا كَانَ فِي مَعُونَةِ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَةِ أَسْبَابِهِ، فَإِنَّهُ يُعْطَاهُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْطَاهُ مَنْ يُعْطَاهُ بِالْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعْطَاهُ مَعُونَةً لِلدِّينِ. وَذَلِكَ كَمَا يُعْطَى الَّذِي يُعْطَاهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُعْطَى ذَلِكَ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، لِلْغَزْوِ، لَا لِسَدِّ خَلَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، يُعْطَوْنَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، اسْتِصْلَاحًا بِإِعْطَائِهِمُوهُ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَطَلَبَ تَقْوِيَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْطَى مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، بَعْدَ أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، وَفَشَا الْإِسْلَامُ وَعَزَّ أَهْلُهُ. فَلَا حُجَّةَ لِمُحْتَجٍّ بِأَنْ يَقُولَ: "لَا يُتَأَلَّفُ الْيَوْمَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَحَدٌ، لِامْتِنَاعِ أَهْلِهِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِمَّنْ أَرَادَهُم" وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْطَى مِنْهُمْ فِي الْحَالِ الَّتِي وَصَفْتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي الرِّقَابِ}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ، يُعْطَوْنَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ مُكَاتَبًا قَامَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، حُثَّ النَّاسَ عَلَيَّ! فَحَثَّ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَأَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ عِمَامَةً وَمُلَاءَةً وَخَاتَمًا، حَتَّى أَلْقَوْا سَوَادًا كَثِيرًا، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مُوسَى مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَالَ: اجْمَعُوهُ! فَجُمِعَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَبِيعَ. فَأَعْطَى الْمَكَاتَبَ مُكَاتَبَتَهُ، ثُمَّ أَعْطَى الْفَضْلَ فِي الرِّقَابِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أُعْطِيَ النَّاسُ فِي الرِّقَابِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفِي الرِّقَابِ}، قَالَ: الْمُكَاتَبُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَفِي الرِّقَابِ}، قَالَ: الْمُكَاتَبُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ: {وَفِي الرِّقَابِ}، قَالَ: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تُعْتَقَ الرَّقَبَةُ مِنَ الزَّكَاةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: "عَنَى بِالرِّقَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُكَاتَبُون" لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزَّكَاةَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، يُخْرِجُهَا مِنْهُ، لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهَا نَفْعٌ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَلَا عِوَضَ. وَالْمُعْتِقُ رَقَبَةً مِنْهَا، رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقَهُ، وَذَلِكَ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَأَمَّا "الْغَارِمُون" فَالَّذِينَ اسْتَدَانُوا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا قَضَاءً فِي عَيْنٍ وَلَا عَرَضٍ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْغَارِمُون" مَنِ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، أَوْ يُصِيبُهُ السَّيْلُ فَيَذْهَبُ مَتَاعُهُ، وَيَدَّانُ عَلَى عِيَالِهِ، فَهَذَا مِنَ الْغَارِمِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْغَارِمِينَ}، قَالَ: مَنِ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، وَذَهَبَ السَّيْلُ بِمَالِهِ، وَادَّانَ عَلَى عِيَالِهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "الْغَارِمِين" الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْنَا الزُّهْرِيَّ عَنِ "الْغَارِمِين" قَالَ: أَصْحَابُ الدَّيْنِ. قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: حَدَّثَنِي خَادِمٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَدَمَهُ عِشْرِينَ سَنَةً قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنْ يُعْطَى الْغَارِمُونَ، قَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ ظَنِّي مِنَ الصَّدَقَاتِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "الْغَارِمُون" الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَمَّا "الْغَارِمُون" فَقَوْمٌ غَرَّقَتْهُمُ الدُّيُونُ فِي غَيْرِ إِمْلَاقٍ، وَلَا تَبْذِيرٍ وَلَا فَسَادٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الْغَارِم" الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَالْغَارِمِينَ)، قَالَ: هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ السَّيْلُ وَالْحَرِيقُ بِمَالِهِ، وَيَدَّانُ عَلَى عِيَالِهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ فَسَادٍ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "الْغَارِمُون" الَّذِينَ يَسْتَدِينُونَ فِي غَيْرِ فَسَادٍ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ قَوْمٌ رَكِبَتُهُمُ الدُّيُونُ فِي غَيْرِ فَسَادٍ وَلَا تَبْذِيرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَهْمًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَفِيالنَّفَقَةِ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ هُوَ غَزْوُ الْكُفَّارِ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: رَجُلٍ عَمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ ابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا لَه». قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ ابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، فَأَهْدَاهَا لَه». وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَابْنِ السَّبِيلِ)، فَالْمُسَافِرُ الَّذِي يَجْتَازُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَ "السَّبِيلُ ": الطَّرِيقُ، وَقِيلَ لِلضَّارِبِ فِيهِ: " ابْنُ السَّبِيلِ " لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَنَا ابْنُ الْحَرْبِ رَبَّتْنِي وَلِيدًا *** إِلَى أَنْ شِبْتُ وَاكْتَهَلَتْ لِدَاتِي وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ، تُسَمِّي اللَّازِمَ لِلشَّيْءِ يُعَرَّفُ بِهِ: " ابْنَهُ ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "ابْنُ السَّبِيل" الْمُجْتَازُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْدَلٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَابْنِ السَّبِيلِ)، قَالَ: لِابْنِ السَّبِيلِ حَقٌّ مِنَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، إِذَا كَانَ مُنْقَطَعًا بِهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ "ابْنِ السَّبِيل" قَالَ: يَأْتِي عَلَيَّ ابْنُ السَّبِيلِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: (وَابْنِ السَّبِيلِ)، الضَّيْفُ، جَعَلَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ [ابْنُ زَيْدٍ]: "ابْنُ السَّبِيل" الْمُسَافِرُ مَنْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، إِذَا أُصِيبَتْ نَفَقَتُهُ، أَوْ فُقِدَتْ، أَوْ أَصَابَهَا شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، فَحَقُّهُ وَاجِبٌ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْغَنِيِّ إِذَا سَافَرَ فَاحْتَاجَ فِي سَفَرِهِ. قَالَ: يَأْخُذُ مِنَ الزَّكَاةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "ابْنُ السَّبِيل" الْمُجْتَازُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَسْمٌ قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَأَوْجَبَهُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْوَالِ لَهُمْ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ)، بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فِيمَا فَرَضَ لَهُمْ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَعَلَى عِلْمٍ مِنْهُ فَرَضَ مَا فَرَضَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَبِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ (حَكِيمٌ)، فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، لَا يَدْخُلُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَلْ يَجِبُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِيهَا حَقٌّ، أَوْ ذَلِكَ إِلَى رَبِّ الْمَالِ؟ وَمَنْ يَتَوَلَّى قِسْمَهَا، فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لِلْمُتَوَلِّي- قَسْمُهَا وَوَضْعُهَا فِي أَيِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ. وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ فِي الْآيَةِ، إِعْلَامًا مِنْهُ خَلْقَهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إِلَى غَيْرِهَا، لَا إِيجَابًا لِقَسْمِهَا بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنِ الْمُنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، قَالَ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ صِنْفَيْنِ، أَوْ لِثَلَاثَةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْمُنْهَالِ عَنْ زِرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجَزَأَ عَنْكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، قَالَ: أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْتَهُ مِنْ هَذَا أَجْزَأَكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَطَاءٍ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ، قَالَ: لَوْ وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَجْزَأَكَ. وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ مُتَعَفِّفِينَ فَجَبَرْتَهُمْ بِهَا، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ("إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل")، فَأَيَّ صِنْفٍ أَعْطَيْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَجْزَأَكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغَيَّرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، قَالَ: إِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ أَعْلَمَهُ، فَأَيَّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَعْطَيْتَهُ أَجْزَأَ عَنْكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحُكْمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، قَالَ: فِي أَيِّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِمَّا سَمَّى اللَّهُ أَجْزَأَكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِمَّا سَمَّى اللَّهُ أَجْزَأَكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ حَيَّانَ أَبُو يَزِيدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَرِقَّانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، قَالَ: إِذَا جَعَلْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَجْزَأَ عَنْكَ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مَسْعُودٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ، قَالَ: أَعْلَمُ أَهْلِهَا مَنْ هُمْ. قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ، وَيَجْعَلُهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ: إِذَا تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ قَسْمَهَا كَانَ عَلَيْهِ وَضْعُهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ عِنْدَهُ قَدْ ذَهَبُوا، وَأَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِينَ يَبْطُلُ بِقَسْمِهِ إِيَّاهَا. وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنْ تَوَلَّى قَسْمَهَا الْإِمَامُ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، لَا يُجْزِي عِنْدَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ جَمَاعَةٌ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعِيبُونَهُ {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، سَامِعَةٌ، يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَقُولُ فَيَقْبَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: "رَجُلٌ أُذُنَة" مِثْلَ "فُعَلَة" إِذَا كَانَ يُسْرِعُ الِاسْتِمَاعَ وَالْقَبُولَ، كَمَا يُقَالُ: "هُوَ يَقَنٌ، وَيَقِن" إِذَا كَانَ ذَا يَقِينٍ بِكُلِّ مَا حُدِّثَ. وَأَصْلُهُ مِنْ "أَذِنَ لَهُ يَأْذَن" إِذَا اسْتَمَعَ لَهُ. وَمِنْهُ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآن» وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: أَيُّهَا الْقَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ إِنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وَأَذَنْ وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَبْتَلَ بْنِ الْحَارِثِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ غِشَّهُمْ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ وَأَذَاهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الْآيَةَ. وَكَانَ الَّذِي يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فِيمَا بَلَغَنِي نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ! مَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ!" يَقُولُ اللَّهُ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}، أَيْ: يَسْمَعُ الْخَيْرَ وَيُصَدِّقُ بِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}. فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}، بِإِضَافَةِ "الْأُذُن" إِلَى "الْخَيْر" يَعْنِي: قُلْ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ، لَا أُذُنُ شَرٍّ. وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: "قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ "، بِتَنْوِين" أُذُنٌ "وَيَصِير" خَيْرٌ " خَبَرًا لَهُ، بِمَعْنَى: قُلْ: مَنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مَا تَقُولُونَ وَيُصَدِّقُكُمْ، إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ، مِنْ أَنَّكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُوهُ، فَأَنْكَرْتُمْ مَا ذُكِرَ لَهُ عَنْكُمْ مِنْ أَذَاكُمْ إِيَّاهُ وَعَيْبِكُمْ لَهُ، سَمِعَ مِنْكُمْ وَصَدَّقَكُمْ- خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَكُمْ وَلَا يَقْبَلَ مِنْكُمْ مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}، بِإِضَافَةِ "الْأُذُن" إِلَى "الْخَيْر" وَخَفْضِ "الْخَيْر" يَعْنِي: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، لَا أُذُنُ شَرٍّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: " إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، لَا يُحَدِّثُ عَنَّا شَيْئًا، إِلَّا هُوَ أُذُنٌ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ ". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)، نَقُولُ مَا شِئْنَا، وَنَحْلِفُ، فَيُصَدِّقُنَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ أُذُنُ)، قَالَ: يَقُولُونَ: " نَقُولُ مَا شِئْنَا، ثُمَّ نَحْلِفُ لَهُ فَيُصَدِّقُنَا ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يُصَدِّقُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، يَقُولُ: وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا الْكَافِرِينَ وَلَا الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: "مُحَمَّدٌ أُذُنٌ!" يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَمِعُ خَيْرٍ، يُصَدِّقُ بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، مَعْنَاهُ: وَيُؤَمِّنُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا عَنْهَا: "آمَنْتُ لَهُ وَآمَنْتُه" بِمَعْنَى: صَدَّقْتُهُ، كَمَا قِيلَ: {رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}، [سُورَةُ النَّمْلِ: 72]، وَمَعْنَاهُ: رِدْفُكُمْ وَكَمَا قَالَ: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 154]، وَمَعْنَاهُ: لِلَّذِينِ هُمْ رَبَّهُمْ يَرْهَبُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، يَعْنِي: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}، فَإِنَّ الْقَرَأَةَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، بِمَعْنَى: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ فَرَفَعَ "الرَّحْمَة" عَطْفًا بِهَا عَلَى " الْأُذُنِ ". وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (وَرَحْمَةٍ)، عَطْفًا بِهَا عَلَى "الْخَيْر" بِتَأْوِيلِ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، وَأُذُنُ رَحْمَةٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: (وَرَحْمَةٌ)، بِالرَّفْعِ، عَطْفًا بِهَا عَلَى "الْأُذُن" بِمَعْنَى: وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ. وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَنْقَذَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَوْرَثَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ جَنَّاتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (" " {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَعِيبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ: " {هُوَ أُذُنٌ} " وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِيهِ، وَالْقَائِلِينَ فِيهِ الْهُجْرَ وَالْبَاطِلَ، عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ مُوجِعٌ لَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْوَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْلِفُ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ بِاللَّهِ، لِيَرْضَوْكُمْ فِيمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ بِالطَّعْنِ عَلَيْهِ وَالْعَيْبِ لَهُ، وَمُطَابَقَتِهِمْ سِرًّا أَهْلَ الْكُفْرِ عَلَيْكُمْ- بِاللَّهِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ: إِنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ لِعُلَى دِينِكِمْ، وَمَعَكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ رِضَاكُمْ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا قَالُوا وَنَطَقُوا {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}، يَقُولُ: إِنْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، مُقِرِّينَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لِخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقًّا، لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ! قَالَ: فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقٌّ، وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ! فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ؟ فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ. قَالَ: وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ، وَكَذِّبْ الْكَاذِبَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَاذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَمْ يُعَلِّمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كَذِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُرْضُوْهُمْ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى النِّفَاقِ أَنَّهُ مَنْ يُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُخَالِفُهُمَا فَيُنَاوِئُهُمَا بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمَا {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}، فِي الْآخِرَةِ (خَالِدًا فِيهَا)، يَقُولُ: لَابِثًا فِيهَا، مُقِيمًا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ؟ {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}، يَقُولُ: فَلُبْثُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَخُلُودُهُ فِيهَا، هُوَ الْهَوَانُ وَالذُّلُّ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَتِ الْقَرَأَةُ: (فَأَنَّ)، بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ "أَن" بِمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ لِمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَإِعْمَالُ "يَعْلَمُوا" فِيهَا، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا "أَن" الثَّانِيَةَ مُكَرَّرَةً عَلَى الْأُولَى، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا، إِذْ كَانَ الْخَبَرُ مَعَهَا دُونَ الْأُولَى. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَخْتَارُ الْكَسْرَ فِي ذَلِكَ، عَلَى الِابْتِدَاءِ، بِسَبَبِ دُخُولِ "الْفَاء" فِيهَا، وَأَنَّ دُخُولَهَا فِيهَا عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْجَزَاءِ جَوَابًا، كَانَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا الِابْتِدَاءَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا فَتْحُ الْأَلْفِ فِي كَلَامِ الْحَرْفَيْنِ، أَعْنِي "أَن" الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْأَمْصَارِ، وَلِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَخْشَى الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ فِيهِمْ {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}، يَقُولُ: تُظْهِرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا عَابُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا: "لَعَلَّ اللَّهَ لَا يُفْشِي سِرَّنَا!" فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ: (اسْتَهْزِئُوا)، مُتَهَدِّدًا لَهُمْ مُتَوَعِّدًا: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ}، قَالَ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: " عَسَى اللَّهُ أَنْ لَا يُفْشِيَ سِرَّنَا عَلَيْنَا! ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: سِرَّنَا هَذَا. وَأَمَّاقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مَا كُنْتُمْ تَحْذَرُونَ أَنْ تُظْهِرُوهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَفَضَحَهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تُدْعَى: (الْفَاضِحَةَ). حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ: (الْفَاضِحَةَ)، فَاضِحَةَ الْمُنَافِقِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُقُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، لِيَقُولُنَّ لَكَ: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لَعِبًا، وَكُنَّا نَخُوضُ فِي حَدِيثٍ لَعِبًا وَهُزُؤًا! يَقُولُ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، أَبِاللَّهِ وَآيَاتِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ: الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِيمَا بَلَغَنِي وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَخُو بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ لِعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا لِقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبُنَا بُطُونًا وَأَكْذَبُنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنُنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ! فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ! لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَذَهَبَ عَوْفٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ الْقُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، يَقُولُ: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}! فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}؟ مَا يَزِيدُه». حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي مَجْلِسٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ، أَرْغَبُ بُطُونًا، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ! فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ! لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ!" وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}، قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْمَعُ آيَةً أَنَا أُعْنَى بِهَا، تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَتَجِبُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ، لَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَا غَسَّلْتُ، أَنَا كَفَّنْتُ، أَنَا دَفَنْت" قَالَ: فَأُصِيبَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وُجِدَ، غَيْرُهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ «عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الْآيَةَ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي غَزْوَتِهِ إِلَى تَبُوكَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالُوا: "يَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّأْمِ وَحُصُونَهَا! هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ "! فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْبَ! فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: قُلْتُمْ كَذَا، قُلْتُمْ كَذَا. قَالُوا: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَب" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ مَا تَسْمَعُون». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَرَكْبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الرُّومِ وَحُصُونَهَا! فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ! فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا! فَحَلَفُوا: مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ! حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا أَرَى قُرَّاءَنَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَرْغَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ! فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ! فَقَالَ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}، إِلَى قَوْلِهِ: (مُجْرِمِينَ)، وَإِنَّ رِجْلَيْهِ لِتَنْسِفَانِ الْحِجَارَةَ، وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنِسْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: "يُحَدِّثُنَا مُحَمَّدٌ أَنَّ نَاقَةَ فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا، فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا! وَمَا يُدْرِيهِ مَا الْغَيْبُ؟ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْإِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ: {لَا تَعْتَذِرُوا}، بِالْبَاطِلِ، فَتَقُولُوا: {كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} {قَدْ كَفَرْتُمْ}، يَقُولُ: قَدْ جَحَدْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِكُمْ مَا قُلْتُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، يَقُولُ: بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ بِهِ وَإِقْرَارِكُمْ بِهِ {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}. وَذُكِرَ أَنَّهُ عُنِيَ: بِ "الطَّائِفَة" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِيمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ، فِيمَا بَلَغَنِي مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيُّ حَلِيفُ بَنِي سَلَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ مِنْهُمْ بَعْضَ مَا سَمِعَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}، قَالَ: "طَائِفَة" رَجُلٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}، بِإِنْكَارِهِ مَا أَنْكَرَ عَلَيْكُمْ مِنْ قِبَلِ الْكُفْرِ {نُعَذِّبْ طَائِفَةً}، بِكُفْرِهِ وَاسْتِهْزَائِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَمْ يُمَالِئْهُمْ فِي الْحَدِيثِ، يَسِيرُ مُجَانِبًا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}، فَسُمِّيَ "طَائِفَة" وَهُوَ وَاحِدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ. إِنْ تَتُبْ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَيَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ، يُعَذِّبِ اللَّهُ طَائِفَةً مِنْكُمْ بِتَرْكِ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: نُعَذِّبُ طَائِفَةً مِنْهُمْ بِاكْتِسَابِهِمُ الْجُرْمَ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَطَعْنُهُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍيَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ}، وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}، يَقُولُ: هُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَأَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، فِي إِعْلَانِهِمُ الْإِيمَانَ، وَاسْتِبْطَانِهِمُ الْكُفْرَ (يَأْمُرُونَ) مَنْ قَبِلَ مِنْهُمْ (بِالْمُنْكَرِ)، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَتَكْذِيبُهُ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}، يَقُولُ: وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}، يَقُولُ: وَيُمْسِكُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَكُفُّونَهَا عَنِ الصَّدَقَةِ، فَيَمْنَعُونَ الَّذِينَ فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا فَرَضَ مِنَ الزَّكَاةِ-حُقُوقَهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}، قَالَ: لَا يَبْسُطُونَهَا بِنَفَقَةٍ فِي حَقٍّ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}، لَا يَبْسُطُونَهَا بِخَيْرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}، قَالَ: يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: تَرَكُوا اللَّهَ أَنْ يُطِيعُوهُ وَيَتَّبِعُوا أَمْرَهُ، فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى "النِّسْيَان" التَّرْكُ، بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَتَادَةُ قَوْلُهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، نُسُوا مِنَ الْخَيْرِ، وَلَمْ يَنْسَوْا مِنَ الشَّرِّ. قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِهِمْ لَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَهُمْ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنُونَ، هُمُ الْمُفَارِقُونَ طَاعَةَ اللَّهِ، الْخَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارِ} بِاللَّهِ (نَارَ جَهَنَّمَ)، أَنْ يُصْلِيَهُمُوهَا جَمِيعًا (خَالِدِينَ فِيهَا)، يَقُولُ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يَحْيَوْنَ فِيهَا وَلَا يَمُوتُونَ {هِيَ حَسْبُهُمْ}، يَقُولُ: هِيَ كَافِيَتُهُمْ عِقَابًا وَثَوَابًا عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ (وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ)، يَقُولُ: وَأَبْعَدَهُمُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}، يَقُولُ: وَلِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، عِنْدَ اللَّهِ (عَذَابٌ مُقِيمٌ)، دَائِمٌ، لَا يَزُولُ وَلَا يَبِيدُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًافَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ فَعَلُوا فِعْلَكُمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَعَجَّلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْخِزْيَ، مَعَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ فِي الْآخِرَةِ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَبَطْشًا، وَأَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ}، يَقُولُ: فَتَمَتَّعُوا بِنَصِيبِهِمْ وَحَظِّهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ، وَرَضُوا بِذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا عِوَضًا مَنْ نَصِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَلَكْتُمْ، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، سَبِيلَهُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِخَلَاقِكُمْ. يَقُولُ: فَعَلْتُمْ بِدِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، كَمَا اسْتَمْتَعَ الْأُمَمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِكُمْ، الَّذِينَ أَهْلَكْتَهُمْ بِخِلَافِهِمْ أَمْرِي {بِخَلَاقِهِمْ}، يَقُولُ: كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِنَصِيبِهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ {وَخُضْتُمْ}، فِي الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى اللَّهِ {كَالَّذِي خَاضُوا}، يَقُولُ: وَخُضْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، كَخَوْضِ تِلْكَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَأْخُذُنَّ كَمَا أَخَذَ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ، ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَشِبْرًا بِشِبْرٍ، وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمُ الْقُرْآنَ: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمَا صَنَعَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَهَلِ النَّاسُ إِلَّا هُمْ؟ » حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْآيَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ! {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ شَبَّهَنَا بِهِمْ، لَا أَعْلَمَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّهُمْ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ! قَالُوا: وَمَنْ هُمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَهْلُ الْكِتَابِ! قَالَ: فَمَهْ!» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: فَمَنْ؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ}، قَالَ: بِدِينِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَذَّرَكُمْ أَنَّ تُحْدِثُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدَثًا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ أَقْوَامٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقَالَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، وَإِنَّمَا حَسِبُوا أَنْ لَا يَقَعَ بِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ مَا وَقَعَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّ الْفِتْنَةَ عَائِدَةٌ كَمَا بَدَأَت». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَفَعَلُوا فِي ذَلِكَ فِعْلَ الْهَالِكِينَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، يَقُولُ: ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ بَاطِلًا. فَلَا ثَوَابَ لَهَا إِلَّا النَّارَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِيمَا يَسْخَطُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، يَقُولُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمَغْبُونُونَ صَفْقَتُهُمْ، بِبَيْعِهِمْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ بِخَلَاقِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا الْيَسِيرِ الزَّهِيدِ
|